فالعرب إذن قد سكنوا فلسطين قبل إبراهيم الذي أتى من نسله اليهود- كما جاء من نسله العرب- فللعرب الأقدمية في السكنى، فقد كانت مدة بقاء إبراهيم في فلسطين، لم تزد على 100 سنة كان فيها غريبًا لم يملك شبرًا فيها، ومدة بقاء إبراهيم وإسحاق ويعقوب فيها، لحين خروج يعقوب إلى مصر مع ذريته وعددهم 70، لم تزد على 230 سنة لم يملكوا شيئًا منها.
ونحن بهذا القول ننفي فقط دعواهم بأسبقية السكنى، مع علمنا بأنها لا تكفل حقًا، وإلا لجاز لليهود الادعاء بأن (مصر) من حقهم دون المسلمين، حيث أن اليهود قد سكنوها قبلهم، ولكن هناك بعدٌ يُعد هو القول الفصل في إثبات الملكية، وهو ما سيظهر من خلال السطور القادمة.
وأما استنادهم إلى أن الله قد عهد لإبراهيم وبنيه بهذه الأرض فلهم الحق فيها باعتبارهم ذرية إبراهيم، فيجلعنا نتساءل: أو ليس إسماعيل عليه السلام وذريته من بني إبراهيم؟! فبمقتضى العدل لا بد وأن يكون هناك ما يفصل في النزاع، ويمنح أحد الطرفين الأحقية في تلك الأرض، وهو ما يتضح في تلك الحقائق:
أولًا: من هم أبناء إبراهيم؟ هل هم مجرد النسل دون اعتبار الإيمان والسير على ملة إبراهيم؟ فهذا مردود، حيث أن من حاد عن التوحيد الذي هو دين الأنبياء، فليس من أبنائه، كما قال الله لنوح عليه السلام عندما أرار أن يشفع لولده: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود/46]، فبنو إبراهيم إذن هم الذين ظلوا على عهد الإيمان، واتباع نهج إبراهيم.
وهذا بدوره يقودنا إلى سؤال آخر: هل ظل اليهود على عهد الله؟ كل مسلم يعلم تمام العلم بمدى الانحراف الذي التزمه اليهود تجاه أمر الله، فهم الذين عبدوا العجل، وهم الذين قتلوا الأنبياء، وهم الذين سبوا الله وأنبياءه، وهم الذين حرفوا دينهم واشتروا بآيات الله ثمنًا قليلًا، وهم الذين قالوا: "عزير بن الله"، وهم الذين قالوا: "قالوا نحن أبناء الله"، وهم الذين قالوا: "يد الله مغلولة"، وهم الذين اتهموا لوطًا عليه السلام بأنه زنا بابنتيه، وأن عيسى عليه السلام ولد زنا، وقتلوا زكريا ويحيى، ولم يتركوا جرمًا على وجه الأرض إلا ارتكبوه، فهل يمكن القول بأن هؤلاء كانوا على عهد الله؟! إن الله تعالى يقول: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة/124] فهؤلاء بظلمهم ليس لهم عهد الله في امتلاك هذه الأرض وغيرها.
ثانيًا: دين الأنبياء كلهم هو الإسلام، وإن اختلفت الشرائع، وقد أفاض القرآن البيان في ذلك، كقوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران/67]، وقوله عن يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف/101]، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران/19]، وهو دين التوحيد الخالص، فمن بقي على التوحيد الذي هو دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى ومحمد صلى وسلم عليهم جميعًا.
فلما كان اليهود قبل التحريف على التوحيد، كانوا هم الممثلين للإسلام، فلما حرفوا دينهم لم يعودوا يمثلونه، ثم كان النصارى قبل التحريف يمثلون الإسلام، فلما حرفوا وبدلوا لم يعودوا يمثلونه، ثم كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يؤمنون بجميع الكتب المنزلة وبجميع المرسلين هم الذين يمثلون الإسلام، وهم أولى الناس بإبراهيم: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران/68]، وبناء على ذلك ينطبق على هذه الأمة في تأكيد ملكيتها للأرض: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء/105]، فوجود المسلمين فيها هو حق شرعي أبلج.
وكان من حكمة الله تعالى أن أراد تأكيد هذا الحق للمسلمين في فلسطين أثناء رحلة الإسراء والمعراج، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعرج به من مكة إلى السماء مباشرة، وإنما أسري به من مكة إلى القدس، ليصلى هناك بإخوانه الأنبياء إمامًا، فكانت صلاته بهم في المسجد الأقصى إيذانًا بانتقال الزعامة الدينية لطائفة استحقت السيادة لما تخلف اليهود عن مقومات استحقاقها، وقد كانت هذه الحقيقة مستقرة في حس الصحابة رضي الله عنهم، فنهضوا لاستلام مفاتيح القدس أيام الفاروق عمر، ثم توجهت جهود نور الدين محمود بن زنكي لتحريرها من أيدي الصليبيبن حتى حررها صلاح الدين يوسف بن أيوب.
وأما فيما يختص بالمسجد الأقصى الذي يريد اليهود هدمه وإقامة الهيكل مكانه، فقد بناه إبراهيم عليه السلام الذي لم يكن يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن حنيفًا مسلمًا، فبالتالي ينسحب عليه كل ما ذكرناه آنفًا من أنهم ليسوا ورثة إبراهيم عليه السلام، وإنما ورثته هم أهل الإسلام أتباع الأنبياء.
وأخيرًا: فالرد على شبهة وجود حق تاريخي أو ديني لليهود في فلسطين، لا نقصد به سوى أهل الإسلام الذين تأثروا بهذه الشبهة الرائجة، وإلا لما خاطبناهم بكتاب الله عز وجل، الذي لا يصلح الاستدلال به لمن لا يتخذه منهاجًا ودستورًا.