الغناء من الأمور التي وقع فيها خلاف واسع بين الفقهاء. - فمنهم من قال بتحريمه من حيث الأصل، ويباح في المناسبات مثل الأعراس أو الأعياد أو الختان أو قدوم غائب، واستدلوا على ذلك بالآية الكريمة (ومن الناس من يشري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله) سورة لقمان. وبحديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع المغنيات وعن شرائهن وعن كسبهن وعن أكل أثمانهن" أخرجه أحمد وابن ماجة والترمذي.
وينسب هذا الرأي إلى عبد الله بن مسعود، وجمهور علماء أهل العراق وأكثر الحنفية وبعض الحنابلة. - وأكثر العلماء قالوا بكراهته، وهم الشافعية والمالكية وأكثر الحنابلة، لما فيه من اللهو، ولأنه يخل بالمروءة، ولأنه ينبت النفاق في القلب كما يقول الإمام أحمد. - وذهب بعض المحققين، إلى أن الأصل في الغناء الإباحة، ويكون حراماً إذا صاحبه عارض تحريم، أو يكون مكروهاً إذا صاحبه سبب كراهة، ويكون مطلوباً إذا صاحبه سبب لذلك. واستدلوا بما يلي:
1- لم يثبت أي دليل على تحريم الغناء بالمطلق. فالآية الكريمة (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله) لا يفهم منها تحريم لهو الحديث إلا إذا كان يضل عن سبيل الله، فإذا اعتبرنا أن لهو الحديث هو الغناء، فهو حرام قطعاً إذا كان للإضلال عن سبيل الله، وكذلك كل عمل مشروع يحرم إذا أدى إلى الإضلال. ويفهم من ذلك أن الغناء أو لهو الحديث ليس ممنوعاً إذا لم يؤد إلى الإضلال عن سبيل الله. وأما حديث أبي أمامة في النهي عن بيع المغنيات وشرائهن وكسبهن وعن أكل أثمانهن، فهو لا يصح عند أهل الحديث، ففي سنده علي بن يزيد، قال البخاري عنه (منكر الحديث) وقال النسائي (ليس بثقة) وقال أبو زرعة (ليس بقوي) وقال الدارقطني (متروك) راجع الموسوعة الفقهية باب استماع الجزء الرابع.
2- وثبت بالنص باباحته من حيث الأصل، وهو حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه " دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعهما، فلما غفل غمزتهما فخرجتا". فمن الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمح بالغناء في بيته، صحيح أن هناك روايات أخرى لهذا الحديث ذكر فيها "دعهما يا أبا بكر، فإن لكل قوم عيد، وهذا عيدنا". وقد استند عليها من يرى حصر اباحة الغناء بالأعياد والمناسبات المماثلة لها. لكن عموم نص الرواية الأولى، تفيد أن الأصل في الغناء الإباحة، وبالتالي فهو لا يحرم أو يكره إلا إذا صاحبه سبب من أسباب التحريم أو الكراهة.
3- القياس الصحيح يقتضي الإباحة. فالغناء صوت جميل موزون، وهو يرجع إلى تلذذ حاسة السمع بما هو مخصوص بها كغيرها من الحواس. والأصل في جميع الحواس إباحة التلذذ إلا إذا صاحبه عارض تحريم. والإنسان بفطرته يتلذذ بأصوات الطيور، وينزعج من أصوات الحمير. ولم يحرم عليه الإستماع إلى أصوات الطيور الجميلة، فينبغي أن لا يحرم عليه صوت إنسان جميل. والقياس الصحيح لا يرى فرقاً بين صوت الطير وصوت الإنسان. هذا هو رأي عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، وأسامة بن زيد، وعمران بن حصين، ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم من الصحابة، وعطاء بن أبي رباح وبعض الحنابلة منهم أبو بكر الخلال، وصاحبه أبو بكر عبد العزير، والغزالي من الشافعية بالإضافة إلى شيخ الظاهرية ابن حزم.
ومقتضى هذا الرأي أن الغناء المباح من حيث الأصل:
- يصبح حراماً: - إذا صاحبه منكر كشرب الخمر أو الإختلاط الماجن.
- إذا كان الكلام فيه فاحشاً أو محرماً أو كذباً، كالغزل أو التشجيع على الحرام أو إشاعة المنكر.
- إذا خشي أن يؤدي إلى حرام كتهيج الشهوة.
- إذا خشي أن يؤدي إلى تعطيل واجبات شرعية أخرى كالصلاة وغيرها.
- ويكون مكروهاً: - إذا صاحبه مكروه، كغناء المرأة أمام الرجال، هذا إذا لم يؤد إلى تهيج الشهوة والفتنة،
فإذا أدى إلى ذلك فهو حرام. -
إذا خشي أن يؤدي إلى فوات سنن ومستحبات كقيام الليل ونحو ذلك.
ج- ويكون مطلوباً: - إذا كان فيه تحريك للعواطف وتشجيع على الخير، كالغناء الحماسي الذي يحرك العواطف للجهاد ومقاتلة الأعداء،
أو الأناشيد الدينية التي ترقق المشاعر وتمجد الله تعالى وتوحده، وتمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشجع على طاعة الله. ما لم يكن فيها كلام منكر