لو كانت الحروف نهراً لعبرته
ينزوي المشتاق إلى ركن بعيد ويبدأ بالتمني:
لو كانت الأرض رملا لامتطيتها كالريح وعبرت فوق هضابها لأحبتي، لكنها شعاب
تتفرّع في دروب تتلوى، انحدار وجروف ومنعرجات تكبر كلما توغّل العابر نحو
مصيره، وفي الطريق إلى من أحب، يقف الذين تحجرت قلوبهم من شدّة العمى
وهم يمنعون القلوب من التعرف إلى بعضها، يقطعون رأس الكلام إن تطاول الحرف
في مدح البهاء ووصفه. وأنا لكي أعبر من بينهم، علي أن أدوس على صرخة
الحب، وأن أهتف باسم الصمت وألوذ به العمر كله، نادماً ومجروحاً في الضمير،
لا أملك سوى ترنيمة المشتاق حين يجلس في ركن بعيد ويرى حياته كلها
انتظارا لوعد أو لشمس. وفيما الآخرون يعبرون الحياة مستورين في ثياب الطاعة،
أعيش أنا عاريا إلا من الأمل، متطلعا إلى بزوغ وجه يقشع العتمة من جبين
الوجود، ويجعل الأرض ملعبا للذين تكون الحرية غاية غاياتهم، والحب أسمى
سعيهم، والموت في كنف الحبيب أعلى ارتقائهم.
ينزوي المحتار إلى ركن قريب ويبدأ بالتمني:
لو أعرف البداية لابتعدت عنها، ولو أعرف النهاية لمشيت نحو غروبها، لكن الدنيا
دوار دائم، كرٌّ على التكرار حين تتشابه الأيام في مرايا سنينها، ويتعاظم اللغز عن
جدوى السعي في الفراغ. تكبر الحيرة كلما مددت الخطوة نحو السراب ووجدته
مبتعدا، وكلما غرفت الهواء ووجدته مشحونا بصدى من يئنون تحت وطأة السؤال
عن المعنى، يستفهمون وما من مجيب لذهولهم، وتقطر من عيونهم دمعة
الحيران حين يجد أمامه في الحياة ألف طريق وهو لا يملك سوى رجلين حافيتين
ورأس محسور وبصيرة مكسورة. ولكن المحتار يجب عليه أن يختار، أن يرمي
بجسده في منزلق غامض ويتذوق لذة الاكتشاف، أو يظل أسيراً في الخطوة
المتجمدة وهو يرى الغيوم تسافر، والفصول تتقلب في دوران الطبيعة والناس،
وهو لا يتزحزح من حفرة الخوف. والخوف في الأصل مجرد فكرة عابرة.
ينزوي المحتاج إلى ركن في نفسه ويبدأ بالتمني:
لو أملك الأرض لا يكفي، لذتي العظمى لو أنهب الشمس في جيبي وأثبّت القمر
فصّاً في خاتمي. مزهواً تمنيت لو أعبر بين الأكوان، أطوفها عرساً، رأسي يطل
على النهايات حيث البداية ولدت هناك، وثوبي ورائي يزحف من ريش ألف
طاووس. القناعة لقمة الفقراء، حجرٌ يرميه الفلاسفة للجياع في الطرقات لكبح
أعناقهم من الاعتلاء. أنا الذي دفعتني الحاجة أن أقتل الوحش لأتذوق كبده، أنا
الذي لو صارت الأرض كلها ذهبا لما اكتفيت. سأظل الهث واللعاب يسيل من فمي
كلما نضجت الثمرة العالية، إليها سأسعى متسلقا قوس الرتابة حتى لو شقّت
الأشواك جروحا في مصيري، وحتى لو اقترب الهلاك مبتسما واضطررت أن اقبّل يده.
ينزوي الشاعر إلى الورقة ويبدأ بالتمني:
لو كانت الحروف نهراً لعبرته واكتفيت، لكنها بحر يفور، موجة تعلو وأخرى تتكسر
وتصير زبداً. وما الحياة سوى عبور بين موجتين، يرتفع المعنى ساعة ويشعّ في
الشمس كأنه الحقيقة ناصعة، ولكنه يعود بعد ذلك مطموساً في العمق الذي بلا
قرار. والشاعر هو الذي يتقلّب بين الغوص في المعنى،
وبين الرسوّ على أرض لم يطأها قلم من قبل.